ramadan2024

آراء وتحليلات

حلف الناتو في استراتيجية الهيمنة الدولية لاميركا
16/09/2019

حلف الناتو في استراتيجية الهيمنة الدولية لاميركا

جورج حداد

في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 وبموجب اتفاقات يالطا ـ بوتسدام بين "المنتصرين"، لتنظيم عالم ما بعد الحرب، وُضعت اوروبا الغربية تحت "السياسة الاحتلالية" لأميركا، مقابل وضع أوروبا الشرقية تحت النفوذ السوفياتي السابق.

عام 1946، أعلن الزعيم البريطاني المعروف ونستون تشرشل في خطاب له أثناء زيارته للولايات المتحدة الأميركية أن معسكر الدول "الديمقراطية" (أميركا وحلفاؤها)، وبعد سقوط النازية، كان يجب أن يتابع الحرب لإسقاط روسيا السوفياتية. واعتبر ذلك الخطاب إشارة انطلاق للحرب الباردة بين المعسكرين: الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق (وقلبه روسيا)، والغربي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية.

عام 1947 طرحت أميركا ما يسمى "مشروع مارشال" للمساهمة في اعادة إعمار أوروبا، تحت شعار انقاذ أوروبا الغربية من المدّ الشيوعي. وكان الهدف الأساسي لهذا المشروع هو وضع الاقتصاد الأوروبي تحت الهيمنة الاقتصادية لأميركا.

عام 1949 طرح مشروع أكثر أهمية وأكثر خطورة، وهو مشروع انشاء الحلف العسكري ـ السياسي الغربي المسمى "حلف شمالي الاطلسي" (حلف الناتو) الذي يضم الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الاميركية. وقد مر الآن سبعون عامًا على انشاء هذا الحلف. وحدد الأمين العام الأول للحلف الجنرال البريطاني هاستنغز ليونيل إيسماي Hastings Lionel Ismay أهداف الحلف بالتعريف المقتضب التالي: "الإبقاء على روسيا خارج أوروبا، وأميركا ـ في داخلها، والمانيا ـ في أسفلها".

عام 1957 نشأت السوق الاوروبية المشتركة بمبادرة شاركت فيها بشكل أساسي المانيا الغربية (حينذاك)، وفيما بعد تحولت السوق الاوروبية المشتركة الى "الاتحاد الاوروبي" الحالي.

وبينما يعمل الاتحاد الاوروبي على التقريب بين الدول الاوروبية وتوحيدها، اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا وعسكريًا، والى شق طريق سياسة أوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة الاميركية؛ فإن "الناتو" كان يستخدم من قبل الولايات المتحدة الاميركية من أجل التفريق سياسيًا وعسكريًا بين الدول الاوروبية، والتقريب بين كل دولة أوروبية على حدة وبين أميركا، وتشجيعها بمختلف أشكال الترغيب والترهيب على شراء الأسلحة الأميركية. وقد ساهمت هذه السياسة في تطوير المجمع الصناعي الحربي الأميركي، وعبره في التخلص من الجمود الذي أصاب الاقتصاد الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية ومن ثم في تسريع عجلة الاقتصاد الأميركي بشكل كبير وتحقيق طفرة اقتصادية في أميركا.

بدأت أميركا تطرح أفكارًا مثل فكرة "الامن الوقائي" أو "الاستباقي" للدول الأعضاء، وفكرة تحويل "الناتو" الى "ناتو عالمي"

وفي ظروف الحرب الباردة استخدمت اميركا "حلف الناتو" كأداة لوضع الدول الاوروبية تحت وصايتها، بحجة الحماية من "الخطر السوفياتي". وبعد انهيار المنظومة السوفياتية والاتحاد السوفياتي ذاته وانسحاب الجيوش السوفياتية من أوروبا الشرقية وحل "حلف فرصوفيا" العسكري، ومن ثم السقوط التام لحجة "الخطر السوفياتي"، مارست أميركا جميع أشكال الضغوط على الدول الأوروبية من أجل استمرار وجود "حلف الناتو". وفي هذا الصدد قام الأمين العام العاشر للحلف البريطاني جورج روبرتسون في تسعينيات القرن الماضي بالطواف على مختلف الدول الاوروبية لاقناعها بـ"ضرورة" استمرار وجود الحلف لأجل "الأمن الأوروبي". وكانت هذه "الضرورة" المزعومة أحد أهم الأسباب لتحريك الأزمة الداخلية والفتن الدينية والإثنية داخل يوغوسلافا السابقة، وتفكيكها، والتي انتهت باشعال أزمة كوسوفو وجر "حلف الناتو" الى القصف الوحشي لدولة صربيا سنة 1999، وفصل كوسوفو بالقوة عن صربيا، خلافًا للقوانين الدولية ولقرارات الأمم المتحدة ذاتها.  

وفيما كان النظام الأساسي لحلف الناتو ينص على أنه حلف دفاعي، مهمته الدفاع المشترك في حال الاعتداء على أي دولة عضو في "الحلف"، بدأت أميركا تطرح أفكارًا مثل فكرة "الامن الوقائي" أو "الاستباقي" للدول الأعضاء، وفكرة تحويل "الناتو" الى "ناتو عالمي" أي توسيع الناتو ليضم دولًا جديدة خارج نطاق "شمالي الاطلسي"، أي خارج أوروبا الغربية وأميركا. وقد اشتدت نزعة توسيع "الناتو" وتوسيع دائرة "مهماته العالمية"، خصوصًا بعد فشل الهيمنة على روسيا في تسعينيات القرن الماضي، وعودة روسيا القومية بزعامة فلاديمير بوتين الى الاضطلاع بدورها كدولة شرقية عظمى.

ولكن ينبغي أن نسجل هنا نقطتين:

ـ1ـ نجاح الدبلوماسية الأميركية في دفع عدد كبير من دول أوروبا الشرقية للانضمام الى حلف "الناتو"، تحت آلية تحويل "العداء للسوفيات" سابقا، الى "عداء لروسيا" راهنًا.

ـ2ـ جر دول "الناتو" وغيرها من الدول الدائرة في فلك النفوذ الأميركي الى "أحلاف آنية" صورية هدفها تأمين التغطية السياسية الواسعة، وأحيانًا الى المشاركة العسكرية الرمزية أو الفعالة، في مخططات الهيمنة الأميركية الدولية والنزاعات و"الحروب الهجينة" التي اثارتها أميركا، كما جرى في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا.

ومع تصعيد السياسة العدوانية الأميركية وفرض العقوبات السياسية والمالية والاقتصادية والجمركية ضد روسيا والصين وايران وفنزويلا، ووضع العالم كله على شفير الحرب الشاملة، تستخدم الادارة الاميركية الحالية كل وسائل الضغط لديها، وعلى رأسها آلية "حلف الناتو"، لاجبار مختلف الدول، بما فيها الدول الاوروبية، على التقيد بسياسة العقوبات والمواقف الأميركية المعادية لروسيا والصين وايران وفنزويلا. ومع ذلك ظهر بشكل واضح خط السياسة الاوروبية المخالف للخط الاميركي. ولكن، اذا كانت روسيا والصين وايران وفينزويلا، المستندة الى ارادة شعوبها، قد وقفت بصلابة ضد الاستراتيجية العدوانية لاميركا، فإن أوروبا المكبلة بقيود "السياسة الاحتلالية" لأميركا، التي تعود الى نهاية الحرب العالمية الثانية، تواجه صعوبات كبيرة في التخلص من الوصاية الأميركية.

وفي الحقبة الأخيرة، كان العالم شاهدًا على الخروج الاستفزازي لأميركا من الاتفاقية النووية مع ايران ومن الاتفاقية الاميركية ـ الروسية المتعلقة بالصواريخ النووية قصيرة ومتوسطة المدى، واعلانها العودة الى انتاج هذه الصواريخ والرغبة في اعادة نشرها في أوروبا بالقرب من الحدود الروسية، وهي تستخدم كل نفوذها وكل اشكال الضغط لتحقيق هذه الغاية، مما يهدد كل اوروبا بوجودها ذاته.

وقد اعلنت ايران أنها ستواصل تحقيق برنامجها النووي السلمي، وأنها لن تخضع لأي ابتزاز، وستتخلى عن التزاماتها بموجب الاتفاق النووي اذا لم تحافظ الدول الاوروبية واميركا ذاتها على هذا الاتفاق، وتسقط العقوبات العدوانية غير المبررة ضدها. أما روسيا، فأعلنت بلسان كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين فيها وفي مقدمتهم الرئيس فلاديمير بوتين أنها ستقابل الخطوات العدائية الأميركية و"الناتوية" بالمثل، وأنها ستضرب ليس فقط الأراضي التي يتم نشر قواعد الصواريخ النووية الاميركية فيها، بل وستضرب مركز القرار الذي يدير تلك القواعد، أي أميركا ذاتها. كما أكدت روسيا أنها لن تكون معتدية، ولكنها في حال نشوب مواجهة لا رجوع عنها، فلن تنتظر أن تتلقى الضربة الأولى كما حدث في الحرب العالمية الثانية، بل إنها حينما تتأكد من نية العدوان عليها، فإن الضربة الأولى ستكون لها.

وجدير بالذكر في هذا الصدد أنه من ضمن المخططات العدوانية الأميركية، أن أميركا تستخدم كل نفوذها لخلق منطقة استراتيجية عازلة بين روسيا وأوروبا الغربية، تهدف الى ردع وعزل روسيا، والتمهيد للعدوان عليها، وتمتد تلك المنطقة من بحر البلطيق الى البحر الأسود الى البحر الادرياتيكي، أي بين دول البلطيق، وأوكرانيا وجورجيا، والبانيا. ولهذه الغاية تعقد اجتماعات قمم دورية كان آخرها اجتماع قمة فرصوفيا سنة 1917 والذي حضره الرئيس ترامب شخصيًا. ويعلق بعض المحللين على ذلك بأن نمط التفكير الاستراتيجي الأميركي، السياسي والعسكري، لم يخرج بعد من مدرسة المفاهيم البالية للحرب العالمية الأولى.

ولفهم كيف تقيّم الأوساط العسكرية في واشنطن القوة العسكرية لروسيا، نورد كلمات رئيس مجلس رؤساء اركان القوات المسلحة الاميركية الجنرال مارك ميلي، بمناسبة مرور 70 عامًا على تأسيس "الناتو"، والتي يقول فيها: "ان روسيا، بما تمتلكه من ترسانة نووية مهيبة، تمثل التهديد الوجودي القائم الوحيد للولايات المتحدة الاميركية".

وهذا يعني، في رأي الكثير من المحللين، أن روسيا أصبحت تمثل تهديدًا مباشرًا لأميركا "من فوق رأس" حلف "الناتو"، وبالتالي إن "حلف الناتو" قد سقط تاريخيًا كقوة مواجهة استراتيجية مع روسيا، كما أرادت أميركا عام 1949، ويحتفظ فقط بدوره كأداة للهيمنة الاميركية على الدول الاوروبية وغيرها من الدول التي يمكن أن تخضع لهذه الهيمنة.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات