معركة أولي البأس

 

نقاط على الحروف

مازوشية أم إعلام!
15/05/2024

مازوشية أم إعلام!

يصعب علينا، في زمننا الحالي، نحن الأباء والأمهات، أن نحفظ لأبنائنا الكثير من أدبيات التواصل، فالبذاءة والتفاهة باتت تتسرّب من كل منفذ ما يجعلنا كمن ثُقب غلاف خيمته ويحاول بكل جهده أن يرتق الصدع ليجده قد انتشر من حوله.

يدفع غالبًا الأهل الذين أرادوا أن يُنشئوا أبناءهم على حُسن الخلق ثمن ما خلّفه كسل أخرين من الأهل الذين عنونوا تقاعصهم عن التربية بعنوان "الحرية".
فأين الحرية في أن يخرج ابنك ويشتم ابني؟ أو أن تخرج فتاتك بصيحات الشتائم الذكورية للتعبير عن تحرّرها من صورتها الأنثوية؟ ما ذنبي أنا إن عانت ابنتك من ذكورية ما ونمطية جنسية لشخصيتك لكي تخرج وتعتدي على أدبيات المجتمع كلّه، فقط لتشعر أنها قد أطلقت جناحيها من أسرك؟ أو كي تُثبت أنت أنك أب متحرّر فتُطلقها بكل ما أوتيت من سوء أدب، على المنصّات، لتخبرنا أنها اليوم وبعد أن باتت تهتك الأديان أو تُسمّي الأعضاء التناسلية باسمها قد فازت بالتفوّق الثقافي..! ما الفائدة التي ستعود على هذا المجتمع إن هي تجرّأت، بعد جهد، أن تتصالح أو تتعرف إلى جسدها متأخرة، وتُطلق كبتها الموقوت بوجه العالم؟
هل ذنبي أنا أن الجانب الغريزي عندها مختلّ أو أن حريتها غرائزية أكثر من كونها فكرية؟

هذه التساؤلات نسمعها كثيرًا عقب الظواهر المتسارعة التي باتت تنتشر على المنصات الاجتماعية والإعلامية، وتحوير هذه الظواهر إلى قضايا. نعم يثيرهم أن يتحولوا إلى قضية رأي عام، فالشهرة ليست فقط بحسن السيرة، يمكن للفضيحة أيضًا أن تمنح أحدهم الشهرة، والتي باتت قرينة المال في زمن المشاهدات المدفوعة.

نحن اليوم، نشهد على شريحة كبيرة من الناس تعتمد في قوتها ودخلها على المشاهدات بصرف النظر عن المحتوى، فيمكن أن يكون المحتوى هادفًا، إيجابًا أو سلبًا، وقد يكون فارغًا تمامًا إلا من التفاهة، المهم ارتفاع نسبة المشاهدة، حتى التصفيق ليس مهمًا، بل أكثر، فكلما ازداد عدم تقبّل البعض رأى أنه أكثر نضالًا، وسيحقق باستلقائه على مذبح الضحية تضامنًا أكبر وشهرة أوسع.

في كتابه "نظام التفاهة"، يقول الفيلسوف الكندي آلان دونو: "ضع كُتبك المعقدة جانبًا، لقد شُن الهجوم بنجاح لقد تصدّر التافهون مواقع التأثير".

خرجت، في الأمس القريب، صيحة مدوّية بأن إحدى متسلّقات المسرح الكوميدي الذي كان يمتطيه "أخوت شانيه" و"ابن البلد"، قامت بالتطاول على حضرة نبي الإسلام - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وعلى الدين الإسلامي الحنيف.

من هي شادن؟ في عملية بحث بسيطة على الإنترنت هي ليست عالمة ولا مفكرة ولا طبيبة ولا مخترعة، ولا حتى مُنظّرة في الفكر الإجتماعي، حتى إنها ليست مُضحكة بالمناسبة، كي يتأهّب العالم لمعرفة تصريحها. هي مُجرّد فتاة عُرفت بأمرين الأول استخدامها لكلمات نابية في ما يُعرف بالـ"ستاند أب كوميدي"، والثاني هي شاذّة جنسيًا. لا شيء بارز في سيرتها غير هذين الأمرين.

تحرص شادن، في مقابلاتها، على أن تُذكرنا بشذوذها وبطولتها في إقامة علاقة شاذّة، ولا أدري ما مصلحتنا نحن بأن نعرف أسرار غرفتها الخاصة، على الرغم من أن جماعة الشذوذ أو الجمعيات المدافعة عنهم يصرّون على حريتهم وخصوصيتهم وعدم الأحقية لأحد بأن يحاكمهم. والغريب أن أحدًا من هذا المجتمع الكبير، والذي يجرّم فيه الدستور فعل الشذوذ، لم يخرج ليتهمها أو يحاكمها أو حتى يسألها ماذا تفعل؟!.. وهنا ذكّرتني بإعلامي يدّعي إجراء تحقيقات وهي بمعظمها مدفوعة، يستميت خلال التصوير ليتلقى اعتداءً من الأطراف التي يقوم بالتحقيق عنها، أو بالأحرى يقوم بعرض ما سُرّب إليه من معلومات عنها. هذا النهج الذي أسميه نهج "المازوشية الإعلامية"، فهي الضحية لكنها البطلة.

استنفدت شادن كل ما لديها حول أعضائها وعلاقاتها، فالأمر لم يعد يحقق الاستفزاز الكافي للمجتمع، بهُت لونها وخفت صداها، فصدحت هذه المرّة بالتطاول على نبي الإسلام والطقوس الدينية الإسلامية. لم يكن اختيارها متفردًا، فقد سبقها "مُضحك" آخر من عناصر هذا الفن، وكانت الضجة حوله كبيرة، ما جذبها ربما لسرقة بعض هذا الضجيج، هذا إن أحسنّا النيّة ولم نقل أن هذا الفعل مُنظّم وموزّع على عناصر مختلفة كلّ بحسب شاكلته.

في هذا السياق؛ يحق لنا نحن أبناء مجتمع يتشاركون مع هؤلاء المواطنة والقوانين الدستورية والحقوق المدنية نفسها، أن نسأل، لم هذا التطاول؟
ما هو محل هذا الفعل من القطبة السحرية التي تجذب المتحرّرين في تكرار الاعتداء اللفظي على مسامعنا وأفكارنا ومعتقداتنا وحرياتنا؟

لو قالوا هي الحرية، فالحرية هي أن تمارس حياتك وتعتقد بما شئت، لا أن تنال من معتقدات الآخرين. والإعلام هو أيضًا أداة أو مرفق اجتماعي نتشاركه، فلا يجوز لك أن ترمي قماماتك فيه وتعترض إن انزعجت أنا ممّا يفوح منك. وإلا وجب عليها أن تتقبّل مثلًا بعض التعليقات المهاجمة لها ولمظهرها. أو أن تتقبل أن يُشتم عزيز لها.
هذا القسم من ادّعاء التحرّر خطير جدًا من حيث الفعل وردّ الفعل، فكما يجيز للفاعل، افتراءً، أن يهين مقدّسًا ما، يحق للمتلقي أن يهين الفاعل ومقدساته، وهنا تزداد هوّة البذاءة والتفاهة أكثر.

وفي تسويغها الأمر، ترى شادن أنه لا يعدو كونه دعابة في غرفة مغلقة، وأنها أزالت الفيديو بطلب من والدها.
لا أعلم إن كان علينا شكر والدها؛ لأنه طلب إزالة الفيديو أو نسأله عن خلفية رغبتها في تحطيم المقدّسات؟ إذ إن علم النفس يُرجع هذه السلوكيات إلى مرحلة الطفولة وإلى شخصية الأبوين تحديدًا، إلا أنه لا شأن لنا بشخصيتها الخاصة كما بقناعاتها وميولها، ما لم تخرج هي وترم بهم على خشبة المسرح العام للتشريح، مع الأسف.

أما عن كونه في غرفة مغلقة، فهذه كذبة تُشبه تمامًا كذبة ربط الجنس بالتحرّر.. فأي غرفة مغلقة هي التي تُفتح أبوابها على مواقع التواصل الاجتماعي؟ ولو!
يختار بعض متسوّلي المشاهدات، سواء أكانوا أفرادًا أم وسائل إعلامية أو مؤسسات ترويجية أم جهات داعمة، أكثر المواضيع حساسية في المجتمع؛ لأنها تُحقّق لهم الجلبة التي يحتاجون إليها في لفت الانتباه، فالطبل الفارغ لا يملك سوى جلبته ليلتف العالم حوله.

وما نراه اليوم في كل هذه الجلبة، برأيي، لا يتعدّى كونه تفاهة أفرزتها سلطة الفرد على الإعلام المؤسساتي والفردي، وانجراره ليكون صدىً لفراغه الداخلي، بصفته فردًا ومجتمعًا مصغّرًا، وليكون أداة تسطيحية للفكر المجتمعي، لغاية أو من دون غاية، ولا شيء لا غاية له.

المازوشية الإعلامية التي نراها اليوم على المسارح وفي البرامج الإعلامية وعلى وسائل التواصل الإجتماعي، لن تُقدّم للمجتمع سوى ما لديها من استجداء للشهرة، واجترار الأعداء طلبًا لمعارك وهمية، تحرّف اهتمام المجتمع عن القضايا المهمّة، تمامّا كما يفعل الديكتاتور في عملياته الاستثمارية للفنانين وحياتهم الشخصية. ومصطلح "بلوغرز" أو المؤثرين ليست من فراغ؛ بل هي تصف ما هم عليه أو ما يسعون ليكونوا عليه.

شادن أو نور أو فادي أو أمل أو فلان، الكوميديا القائمة على السخرية من الأهل ومن المقدّسات أو الثوابت الأدبية والسلوك الاجتماعي العقلاني، ليست سوى محاولة بائسة من الفرد في تسوّل مقبوليته، ومحاولة جد خطيرة من المروّجين والداعمين لإيصال هذا العالم ككل إلى مرحلة كمال نظرية "الغاية تسوّغ الوسيلة"، في ظل نظام الرأسمالية الذي يرى أن الغاية هي الكسب والفوز، بصرف النظر عن التنازلات والقيم والجوهر الذي سيُهدر في سبيل هذه الغاية.
إن هذا الإنحدار، ما لم يُصوّب بقوانين أخلاقية فعلية بعيدة عن الردح والردح المقابل، سيسلب القيمة المجتمعية الحقيقية، ولن يبقي منه سوى ألسنة لاهثة ناحية الشهرة والمال، بما لا يختلف كثيرًا عن امتهان "بيع الهوى". ولن يكون التحرّش، والذي يتسلّل إلى العلن مؤخرًا، الرذيلة الوحيدة الناتجة عنه، فمن يضع الإباحة موضع الحرية لا يمكنه أن يضبط نفوذها.. وهو بالأصل لا يريد ذلك؛ لأنه عمل متقصد يهدف الى تهديم قيم المجتمعات الرافضة لهيمنة الرأسمالية المتوحشة على العالم.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف