نقاط على الحروف
إيران في الذكرى الـ 45 لانتصار الثورة: نموذج واقعي لدولة القوّة والاقتدار
محمد أ. الحسيني
اللقاء الذي أجراه آبة الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي مع مجموعة من قادة ومنتسبي القوات الجويّة وقوات الدفاع الجوي في الجيش الإيراني قبل أيام، ضمن فعاليات الاحتفالات بعشرة الفجر، ذكرى انتصار الثورة الإسلامية في إيران، لم يأتِ في سياق اللقاءات الروتينية التي يعقدها مع التشكيلات والقيادات العسكرية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية كونه القائد الأعلى للقوات المسلحّة، فقد جاء هذا اللقاء عشية ذكرى البيعة التاريخية التي جرت في 8 شباط 1979 من قبل كوادر القوّة الجوية مع مفجّر الثورة وقائدها الإمام الخميني الراحل (قدس سرّه)، وبمثابة تجديد للبيعة بعد ما يقرب من خمسة عقود تحوّلت فيها إيران إلى قطب الرحى في دائرة التطوّرات والمعادلات الدولية.
محور الاقتدار
أتى هذا اللقاء في خضم تحوّلات محورية في خارطة الصراع في المنطقة، حيث يسجّل محور المقاومة نقاط تقدّم إضافية على قوى الهيمنة والاستكبار العالمي وعلى رأسها أميركا و"إسرائيل"، بدءًا من الإنجاز التاريخي الذي تكتب المقاومة الفلسطينية فصوله انطلاقًا من قطاع غزّة، والتهديد الوجودي الذي تشكّله المقاومة الإسلامية في لبنان على مستقبل الكيان المؤقت، مرورًا بالضربات المؤلمة والمباشرة التي توجهها فصائل المقاومة في العراق لمراكز الاحتلال الأميركي المنتشرة في المنطقة، والتصدّي البطولي لحركة "أنصار الله" التي تمرّغ أنف أميركا وبريطانيا والحلف الغربي في التراب نصرةً لفلسطين وشعبها وقطاع غزّة وللقدس الشريف، وكان مناسبة ليؤكد الإمام القائد على الثوابت الاستراتيجية التي رفعتها الثورة الإسلامية وحققتها، داعيًا إلى "توجيه ضربة قاضية لإسرائيل"، والدفع باتّجاه إضعافها أكثر من خلال قطع العلاقات الاقتصادية معها علنًا.
على النخب واجب ثقيل
خاطب الإمام الخامنئي النخب في العالم الإسلامي الذين لا ينفصلون عن الشعوب، قائلًا: "عليهم واجب ثقيل تجاه قضية غزّة"، كما تجاه دولهم التي لا تزال تقدم الدعم العسكري والاقتصادي لـ"إسرائيل"، ويمكن لهذه النخب "أن يلعبوا دورًا هامًا في مجتمعاتهم من خلال إحداث بيئة عامة للمطالبة بقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني"، دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى شنّ حرب عسكرية عليها، وهذا الدور بحد ذاته يشكّل ردًّا مباشرًا على السعي الذي يقوم به الحلف الغربي - الصهيوني لتحييد هذه النخب، ومنعها من لعب دورها المهم في المجتمع، حيث إن "إثارة الشك والوهن لدى هذه النخب هي أهم خطة للعدوّ" معربًا عن ثقته بأن "الشعوب لديها القدرة على الوقوف بوجه هذه الحكومات وإجبارها على التوقف عن دعم الكيان الصهيوني".
إيران نموذج واقعي
انطلق الإمام الخامنئي في دعوته النخب العربية والإسلامية من واقع أثبتته تجربة عملية عاشتها إيران منذ ما قبل انتصار الثورة وبعده على يد الإمام الخميني الراحل (قدّس سره) وصولًا إلى اليوم؛ فعلى مدى أكثر من نصف قرن من الزمن قادت النخب الدينية والعلمية والجهادية في إيران عمليات التعبئة والاستنهاض والثورة لإسقاط حكم الشاه البهلوي، ونجحت في تحقيق الانقلاب الاستراتيجي الذي نقل إيران من نظام تابع للغرب وحليف لـ"إسرائيل" إلى نظام إلهي يتبنّى شعارات أصولية تنادي بتأسيس دولة إسلامية، لا شرقية ولا غربية، مستقلّة عن هيمنة الغرب الرأسمالي وسطوة الشرق الشيوعي والماركسي، وبدأت هذه النخب بإعادة تشكيل نظام الجمهورية الإسلامية بمؤسساته المختلفة التشريعية والتنفيذية وبناه التحتية الفكرية والثقافية وتشكيلاته العاملة على أسس دينية بتأصيل فريد قائم على إنجاز الاستقلال الفعلي بالقوى الذاتية دون الاعتماد على الخارج.
الاعتماد على القدرات الذاتية
وعلى الرغم من أن النظام الإسلامي الوليد في إيران واجه على مدى ثماني سنوات عدوانًا عسكريًا عالميًا وحصارًا دوليًا شاملًا للقضاء على "حكم الخميني" بواسطة نظام صدّام حسين، إلا أن عملية التشكيل الجديدة لهذا النظام لم تتوقف، بل استطاع الإمام الخميني تحويل التهديدات، التي كانت تستهدف ضرب المشروع الإسلامي المستقلّ في مهده، إلى فرصة أخرى لبث شحنة إضافية في سياق تزخيم الجهد الذاتي والتأكيد على ضرورة امتلاك عناصر القوّة بما يؤمن الحماية القادرة والمستدامة للنظام الإسلامي. وتجسيدًا لهذا الاتّجاه يُذكر أن أحد القادة العسكريين جاء خلال الحرب العراقية - الإيرانية ليخبر الإمام الراحل بنفاد قطع الغيار العسكرية وعدم القدرة على استيراد التجهيزات العسكرية من الخارج بسبب الحصار المطبق على البلاد، فكان ردّ الإمام: لماذا تأتون بها من الخارج؟! لماذا لا تصنّعونها أنتم؟! وكان هذا الردّ كفيلًا بإطلاق سياسة ثابتة مستمرّة حتّى اليوم تقضي بالاعتماد على القدرات الذاتية في التصنيع الحربي وتطويره حتّى باتت إيران تحتلّ مرتبة متقدّمة في هذا المجال على مستوى العالم، وأسهمت في ترسيخ معادلة الردع الاستراتيجية ممّا يدفع "القوى الكبرى" اليوم إلى التفكير مليًّا وعميقًا بالعواقب الجسيمة في حال أرادت القيام بأي حماقة عدوانية ضدّ إيران.
سياسة القوّة والاقتدار
اعتمد الامام الخامنئي أيضًا في خطابه التحفيزي للنخب على ثقته بقدرة هذه النخب على التحرّك الفاعل بما يؤول إلى نتائج حقيقية لا نظرية، وانطلق في ذلك من واقع حاليّ أصبحت الجمورية الإسلامية تمتاز به نتيجةً للمنهج الذي أرساه الإمام الخميني الراحل؛ فإيران تزخر اليوم بوفرة الطاقات والقدرات الإبداعية التي تسهم في تطوير ورفع مستوى المشاريع الانتاجية بمختلف مجالاتها العلمية والاقتصادية والثقافية والعسكرية والتكنولوجية المتقدّمة، وغيرها من المجالات التي تكرّس سياسة "القوّة والاقتدار"، والتي يقرنها الخامنئي دائمًا بأي توجيه قيادي أو إرشاد عام للمسؤولين في إيران. ويكفي على سبيل المثال لا الحصر أن في إيران ما يزيد عن ثمانين ألف كادر أكاديميّ من الأساتذة الجامعيين في شتّى الاختصاصات العلمية والتكنولوجية والعلوم الإنسانيّة، كما تحتضن ما يقرب من عشرين ألف مخترع في مجالات الفيزياء والكيمياء والطب والدواء وتقنيات الطاقة المتجدّدة، فضلًا عن كونها واحدة من أوائل الدول في البحث العلمي، بما يمنحها المقوّمات التي تجعلها دولة مستقلّة بسيادتها وقرارها، وبقواها الذاتية القادرة على حماية الثورة الإسلامية ومقدّراتها، وحفظ خيرات شعبها وطاقاته المتنامية.
ذكرى انتصار الثورة الاسلامية في ايران
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024